لن نتناول العيطة ببادية المدينة الفوسفاطية ، من جوانب البحث الأدبي أو السوسيولوجي أو غيرها من العلوم التي تبحث في الموروث الغنائي للشعوب، من موسيقى ورقص وأغاني.. ونغوص حينها في أعماق و أغوار لا خروج منها ..!! فذلك باب يتم فتحه من ذوي الاختصاص ، لإعطائنا كل شادة وفادة عن العيطة وأصولها وأنواعها وروادها قديما وحديثا وتنوعها حسب المناطق وجهات البلاد ، وهلم جرا…!!

سنكتب عن العيطة ومكانتها كفن وكتراث غنائي شعبي، وذلك بعين أخرى و بمنظور مخالف لما يبحث عنه الباحث والسوسيولوجي والمهتم الدارس لعوالم العيطة وفروعها ..!!

نحن سنهتم بتلك الهزة والقشعريرة الفريدة من نوعها التي ربطتنا دوما “بريح لبلاد ” ولا يمكن أن ننفيها من أحاسيسنا العميقة واللاشعورية والغير المتحكم فيها..!! أو نتخطاها بشكل من الأشكال. حين نسمع العيطة وننصت ” للغة الكمانجة” فتعيدنا بالذاكرة لعقود دفناها من عمرنا ..!!
إن العيطة موروثنا الغنائي الشعبي ، ولا يمكن أن نقصيه من الذاكرة الجماعية لباديتنا المغربية ، ومن حمولته الفنية والثقافية ! يا ما كانت لنا لحظات حميمية عشناها في عوالمها بباديتنا في ستينيات و سبعينيات القرن الماضي !! لعلها علاقة شعورية عميقة وحميمية مع الموروث الغنائي الشعبي في باديتنا ، بنواحي المدينة الفوسفاطية..!! نعم ؛ ومن دون شك، سنعود بذاكرتنا للوراء ، كي نلامس في مقالنا هذا موضوع للعيطة من جوانبه الأخرى الروحية و النفسية والسيكولوجية ؛ وهي تلك العلاقة الحميمية التي كانت وما تزال تربطنا بهذا التراث الفني والغنائي الشعبي الرائع، ببادية مدينة خريبكة ونواحيها سواء بالمفاسيس أو لكفاف وأولاد إبراهيم وبني خلف وبني خيران أو غيرها من قبائل المنطقة للهضبة الفوسفاطية منذ عهد الحماية..!! وكيف كان للعيطة تواجدها الدائم والمستمر في حياة المجتمع البدوي بالخصوص ، بالمداشر والأرياف ، وحضورها الفعلي في كل المناسبات من أفراح للزواج أوالختان أو المواسيم وغيرها…

العيطة ظلت على مر السنين تشدنا لحياتنا الاجتماعية الحقيقية شدا بليغا ، وكل ما تتلفظ به الشيخة أو الشيخ هو من صلب واقعنا اليومي بالبادية ، بل يتم نسج كلمات العيطة تبعا للأحداث والوقائع الاجتماعية . مما يجعلها قريبة من نبضات المجتمع وأوجاعه وأحزانه وهمومه، وهي لسان حاله ، مما خلق ذلك الحب الفطري بين أبناء المجتمع والعيطة بأنواعها وأصنافها ، ولا يهم إن كانت العيطة زعرية أم مرساوية أو حوزية أو ملالية أو” لخريبكي والساكن كفروع لهذه العيطة ” . وكلما كان لكلام العيطة علاقة بموضوع ما ، وهو حديث الساعة بالبلدة ، كلما كان الإقبال أكبر على الشيخ ومجموعته ، بحيث يصبح الطلب متزايدا عليه بشكل لافت ، وتتناقل الناس أخباره والأمسيات التي نالت اعجاب الشعب الملهوف على ما يفرج عنه كبواته وأحزانه في لحظة شاعرية ، وعادة ما يتجاوب أصحاب الحال مع أنواع من هذه العيطة ، والتي تجعل الحاضرين يطلبون من الشيخ أن يعيد نفس المقطع أو الساكن لعدة مرات..!!

وكان لشيوخ العيطة في زماننا مكانتهم وتواجدهم في الساحة بدون منافس ، نذكر من بينهم المخروط وحسن لخريبكي و الموتشو وولد الكرشة والشيخ ساتسة وولد مبارك مؤخرا ..

لقد كان الصمت يعم الخيمة بالبادية ، كلما بدأ ” ولد المخروط ” يتجاوب مع كمانه ؛ وهو مسترسل في الغناء دون توقف في انسجام تام مع الكلمات المعبرة والشاعرية عن واقعنا المعيش ، مما يجعل الحضور يعيش لحظات حميمية وعشق دفين للنفس البشرية مع المقاطع الموزونة التي تثير الاحساس العميق في دواخل أهل البلدة، بحيث أن العيطة على الدوام ظلت ” ريح لبلاد ” كما يقال بعاميتنا ، وتعبير عن كل شي أصيل يجمعنا بالبادية التي ظلت في عزلة تامة عن المدينة ، وظل سكانها في قناعة تامة بحياتهم القروية ومحيطها الطبيعي وجمالها الأصيل.. !! وظل البدوي وأسرته في عشق للبادية وعالمها، ولا يفكر إطلاقا في الهجرة نحو المدينة.. ويعتبر في زمانهم خزي وعار أن يترك البدوي أرض أجداده ، ويهجرها نحو المدينة…!!

وعادة ما كان الناس في البادية لا يذهبون للعرس إلا إذا ما ذاع الخبر في القبيلة بأن فلان ” جايب فراجة من بني ملال ” “الشيخ ساتسا ولا ولد المخروط”. بحيث تملأ الخيمة عن آخرها ولا تظهر المجموعة إلا بعد نزول الظلام.. وفي زماننا كنا نفعل المستحيل حتى نشاهد بأم عيوننا “ولد المخروط أو ولد الكرشة أو ساتسة “وهو يحمل ” الكمانجة ” ويجعلها تتكلم لغة العيطة . ذلك الفن الشعبي ؛ وكان الشيخ عادة ما يقسم أطوار الليل ، ونوع العيطة و”المساكن ” التي سيقدمها قبل تناول العشاء وبعده وعند طلوع الفجر..
وعادة ما كانت المجموعة تغادر قبل طلوع الشمس ، أما الأطفال الصغار فلا مكانة لهم داخل الخيمة . وكذلك النساء ؛ بحيث تجد الأطفال الصغار، يتابعون الفراجة من ثقب الخيمة أو ما يسمى ” بالخالفة “ويقوم أحد أفراد الأسرة لصاحب العرس بمراقبة الوضع عن كثب ” ويطرد الأطفال حتى لا يزعجون الضيوف، ويحمل في يده قصبة أو عمود.. أما النساء، فيشتغلن في متابعة الوضع من بعيد ومراقبة أزواجهن ، وخاصة الرجال الذين يدخلون في نقاشات جانبية وحميمية مع الشيخات أو المدمنين على القرعة …!! وكانت النسوة يتسترن بغطاء “الحيك ” حتى لايعرفن ، وتظهر منهن سوى عيونهن ..!!

وفي الصباح الغد ؛ ترى كل من حضر” لفراجة ” ما زال يعاني من قلة النوم ، بل ما زال يسمع أصوات لفراجة في أذنيه .. وكل ذلك كان يمثل لنا الشيء الكثير، ونحن أطفال صغار، ومنا من تدرب على حفظ كلمات العيطة التي كان يسمعها في الأعراس ، ومنا من امتهن الضرب على الطعريجة أو الكمنجة أو البندير والوتار .. حتى أمسى البعض من الساكنة يتناوب مع المجموعة فأصبح عندنا أكثرمن” كوامنجي”و طعارجي “و في أحد الأعراس كانت المجموعة التي حضرت جد ضعيفة . و لم ترقى للمطلوب ، فتسلم أهل الدوار المعروفين ” الكمنجة و الطعريجة “وأبدعوا مع المجموعة ونالوا اعجاب الجميع. وبذلك أمسى عندنا البديل في بنك الاحتياط ،تحسبا لأي طاريء .. !!

للعيطة مكانتها المتجدرة في النفوس بباديتنا ، كغناء شعبي قديم جدا. وكلما سمعها الإنسان الذي عاشها منذ زمان قديم ، لا بد أن يأخذه الحنين و يشعر بذلك الدفء الدفين في أعماقه ، وتعود به لذكريات جميلة بأماكن شتى عاين فيها أحداثا ووقائع لا تنسى من ذاكرته ، مما يجعله يحكيها وكأنها وقعت قريبا ..!!
فلكل منطقة نوع من الغناء يهز المشاعر الباطنية ويلامس الشعور ..فللأمازيغ وأهل الأطلس ” المايا ” ولتارودانت وورزازات “أحيدوس ” ولخريبكة وسطات والدار البيضاء العيطة و”السواكن” ..!!

العيطة هي الأخرى لم تسلم من موجة العصرنة مما أفقدها طابعها الأصيل ، وألبسها أثوابا جديدة فقدت معها ذلك الصيت والصمعة والمكانة التي كانت تحتلها شكلا ومضمونا ، بحيث كان للعيطة ارتباطها باليومي للفلاح والحرفي والعامل بالبادية . وكانت كلماتها كلها تعابير صادقة عن مواضيع حية يعيشها الناس،لا خيال ولا صناعة في موسيقى كلماتها وأشعار أغانيها عكس ما نراه اليوم من أشياء دخيلة على العيطة الأصيلية للبادية المغربية..!!